أحدث الاخبار

قراءة في .. وجوه في الجرداغ المجموعة القصصية الأولى للقاص والشاعر عبد الرزاق نعمة الاسدي / عادل شهاب

ااا
0

كنا /



عن مطبعة البصرة أصدر القاص والشاعر عبد الرزاق نعمة الأسدي 

مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان ( وجوه في الجرداغ ) تصميم صلاح جادري، احتوت المجموعة على تسعٍ و عشرين قصةٍ قصيرةٍ مُستلةٍ من الواقع الحياتي الذي عاشه الكاتب 


- القاص عبد الرزاق نعمة الأسدي من مواليد 1946 ، خريج قسم اللغة العربية جامعة البصرة. نشر العديد من الكتابات والقصائد والقصص في الصحف والمجلات العراقية والعربية والمواقع الألكترونية. سبق وان نشر ديواناً شعرياً بعنوان ( الخيمة والهوية) 

من الشعر العمودي والحر في مديح آل بيت الرسول (ع)..


دلالات الواقع ..


في هذه المجموعة المترابطة بوحدتها الموضوعية والفنية ( وجوه في الجرداغ) التي ضربت جذور شخوصها  عمق الواقع الحياتي للكاتب، وشكلت صوراً وأحداثاً تعايش معها وخصوصاّ تلك التي تمثلت بأيام صباه وشبابه. 

اعتمد القاص عبد الرزاق نعمة على ذاكرته في رصدِ شخصياتٍ محوريةٍ تتحرك ضمن واقعهُ  الزماني والمكاني بداية ونهاية، في إطار سردي مكثف ومشوق تميز بالغرابة والمتعة والتأثير المباشر على المتلقي بعيداً عن الأطالة والأسهاب .. لقد أحاطت وجوه في الجرداغ بمعانات الواقع الحياتي المعاش لحقبة زمنية شهد الكاتب أحداثها بدلالاتها الإنسانية والعيانية وتقلبلتها وتأثيرها الجلي على اسلوبه السردي، الذي تداخلت صوره في صورٍ حياتيةٍ متنوعة ومواقف اجتماعية ساخرة  اتسمت بها شخوص مجموعته .

 

ففي قصة / أوجاع ص28 / 

 تتضح لنا قدرة الكاتب في رصد حالتين متناقضتين في مشهدٍ وحدٍ / نقرأ : " أوشك الصيف على الرحيل وبانت تباشير الشتاء بغيوم رماديةٍ ملأت السماء وباتت تحجب ضياء الشمس أحيانا. اليوم هو موعد زفاف حامد وقد فُرِشَت الباحة التي أمام دارهم بالحصران الملونة ووضعت الكراسي بمحيط الباحة ، ارتفعت زغاريد النساء في فضاء أكواخ القرية وبيوتاتها وكانت حركةالمهئين لا تنقطع" ..

لقد استل الكاتب لقطة الفرح هذه من جذر محيطه ليفاجئنا بلقطةٍ تراجيدية معاكسة تماماً ينقلنا من حالة فرح بهيج إلى حالة فقر وحرمان ../  يكتب :" على بعد أمتار من مكان الإحتفال وأمام كوخ يكاد أن ينهار على صاحبه، بابه من صفائح السمن النباتي والخشب وجدرانه من القصب وقد استهلكتها الشمس حتى بدت سوداء تعوي الرياح بها. أمام ذلك الكوخ جلس سعيد على الأرض واضعا رأسه بين ركبتيه وعيناه تذرفان الدموع وهو ينشج بحرقة وألم ، يكاد يسمعه كل من يقترب منه وقد أكتسح الحزن معالم وجه ." ..

ويعلل الكاتب سبب بكاء سعيد، بأن التي ستزف الليلة هي حبيبتهُ وقد انفطر قلبه حزناً على من أحب فهو ولعسر حاله غير قادر على التقدم لطلبها من أهلها والفوز بها قبل أن ينالها غيره ..

لقد كان للإرتباط الزمني والبيئي والوجداني دلالة واضحة على عمق الواقع الذي غمر شخوص  المجموعة والتي إستلهم صورها منه مع إظهار الدلالة الوجدانية والإنسانية كمحور ينم عن صدق التجربة وأحتوائها للفكرة الموضوعية في نسج الواقع بصوره البسيطة المتواضعة بعيدا عن التكلف، أي أن صياغة الأحداث جاءت عنده حقيقة واقعة وليست مصطنعة أو دخيلة. 

لقد استطاع القاص عبد الرزاق نعمة رصد وتجسيد الوصف كحالة متجانسة ليعطينا جانباً من التفاصيل الدقيقة لعملية السرد في دلالات رمزية واضحة ..


مخالب الحرمان ..


في قصة (وجوه في الجرداغ)  التي تصدرت عنوان مجموعته يختزل الكاتب عالمه بكل توصيفاته عبر شخوصٍ هذه القصة التي تزاحمت على عتبة واقعها ليأخذ 

كلٌ دوره على خشبة المسرح الحياتي اليومي النابع من عمق الواقع،

من خلال سرد الذات واستلهام البيئة الأجتماعية بكل تفصيلاتها  وأنماطها وإستنساخها من الواقع المعاش، يرصد لنا الكاتب المشاهد والأشخاص والمواقف مجسدا طبيعتها في العمل والشارع والقرية وتأثير الطبيعة البكر على عوالمها الحالمة على ضفاف نهر الخورة ومناوي باشا وشط العرب والضواحي الممتدة هناك ..هي نماذج يزخر بها الواقع المشبع بالمعانات، الفقر ، المرض، الموت، ،الحياة ، والحرمان . وغيرها من احداثٍ متباينةٍ ومتداخلة، ما يدل على إن الكاتب شغلته ظواهر الحياة وتقلباتها المعيشية ،( وجوه في الجرداغ ) :"   ما زالت ذاكرتي تحمل صوراً ومشاهد تلك القرية الصغيرة وهي تغفو بين ظلال غابة من النخيل يحتضنها نهر الخورة أحد الأنهر المتفرعة من رحمِ شط العرب التي تشكل حلقة وصل بين القرى المنتشرة على جانبي الشط، وتعد تلك الانهر مكاناً مناسباً لكي تنشئ على ضفافها مكابس للتمور والتي تعرف (بالجراديغ) ومفردها (جرداغ) وهي كلمةٌ أعجمية تعني المكان الذي تصنع فيه التمور للتصدير خارج البلد " ص 15./ 

ويتابع القاص سرد وقائع حكايته التي تميزت بتعدد شخوصها وتنوع مهامها ومصائرها.   :" يمرُ الحاج أبو عبودي على الحارس عبد الله مذكراً إياه أن ينتبه، ولا تغفل عيناه عن الجرداغ، والحارس 

، هذا ذو عينين ثاقبيتين كعيني صقر يراقب الأولاد خاصةً فهم لفقرهم لا يستطيعون شراء أغلفة لدفاترهم وكتبهم المدرسية فيختارون الورق المشمع الذي يُفرشُ داخل الصناديق قبل وضع التمور فيها،  من أجل تجليدها فيأخذ كل واحدٍ بضعة اوراقٍ  ويدسونها بين طيات ملابسهم إلا أن المشكلة تكمن في كيفية اخراجها من الباب الرئيس الذي يحرسه ابو عبد الله." 

ينقلنا القاص عبر هذه القصة التي تميزت بغرابة أحداثها المتسارعة وما آل إليه مصائر شخوصها التي لاحقتها الأقدار واحداً تلو الآخر لينتهي بهم المطاف إما إلى الموت بشكل غريب أو رحيل البعض الآخر ..

يرصد لنا القاص بعين السارد واقعة غريبة. نتعرف عل شخصية   (ثكولي) الرجل الذي لم يحالفه الحظ يوما، فهو صباغ تارة وأخرى صاحب عربة ثم عامل بالجرداغ .

:" وأخيرا اشترى له سيارة متهالكة وكانت نذير شؤم عليه فذات مرة حينما أصاب السيارة عُطل  طلب من الشباب المارين دفعها، فدفعوها بقوة ولم يكن الكابح يعمل وكانت على مقربة من حافة نهر الخورة، فهوت على أم رأسها إلى النهر ، وكان (ثكولي) ممسكاً  بمقودها دون أن يستطيع أن يفعل شيئ ووسط دهشة الجميع غاصت السيارة إلى ألأعماق الطينية للنهر ولم يستطع وقتها احداً من أنقاذه فمات غرقاً داخل السيارة." ص16)


بعد الرحيل .. 


وبعد وفاة مجيد سلومي صاحب الجرداغ وهو رجل مسيحي توقف العمل كلياً، وقد كان الجرداغ يشكل مصدر عيش لأهالي القرية فهو جزء من حياتهم لا يمكن الإنسلاخ عنه. ثم يلحق به الحاج أحمد المسؤول عن إدارة العمل في  الجرداغ الذي مات هو الآخر حزنا على زوجته التي لقت حتفها إثر انهيار سقف أحد المخازن عليها أثناء ذهابها لجلب الماء من حنفية كانت داخل الجرداغ..

ويصل بنا الكاتب الى ذروة الحدث ليضع لنا  نهاية دراماتيكية متسارعة من الأحداث هي أشد قسوة على عوالم تلك القرية، دون أن تنتهي بمشهدٍ واحدٍ وحسب بل أن القرية والجرداغ مسحا معاً من الوجود بعد أن شقت الحكومة شارع الكورنيش على نهر الخورة.

: " وبقيت في ذاكرتي أسماء ووجوه لم أستطع نسيانها رغم السنين." الكاتب ) .

في قصة (شتات السنين)  ص19 نقرأ :" تمشي بهدوء وثقة تراقبُ بحذر وأنتباه الطلبة في الإمتحانات الوزارية . وجهٌ جميلٌ مشعٌ كأنه الشمع تُظِهر دماثةخلقها ورقتها وسمو تصرفاتها، كلماتها تلامس شغاف القلب فتقع كأنها السحر  على من يسمعها، مالَ قلبي لها وشُغلتُ بها من أول نظرة .. لم أستطيع صبراً حتى وجدت نفسي أسألها بجرأة وشجاعة قلت لها .  أرجو أن تقبلي  بأن أتقدم لخطبتكِ أن لم تمانعي."..

يذهب لخطبتها هو وأمه وجارة لهم، فيوافق أبوها بعد موافقتها. ولم يخفي شيىء عن أحواله فهو معلم مثلها ويعيش في قرية ريفية في بيتٍ طيني ورثوه عن جده . 

في ذات الوقت  كانت فتيل الحرب العراقية الإيرانية قد اشتعلت أوارها فَدُعيت مواليدهُ للإلتحاق بصفوف الجيش وكان موقعه دائما في الصفوف الامامية .

نتابع :" حتى وقعتُ أسيراً في أحدى المواجهات العنيفة ، مرت سنة تبعتها ثالثة وحتى نهاية الحرب ما زلنا أسرى وقد مضت تسعُ سنوات وأنا غائب لا يعرف عن مصيري شيء !." 

ثم يفتح له الله باباً للحرية ويعود إلى أهلهِ، ويتذكر خطيبته التي لم ينسها يوماً كان يدعُ الله أن يجمعه بها وقلبه يكاد يفرُ شوقاً إليها. ولكن بعد انتظارٍ  طويل دون أمل تسلل اليأس إلى قلبها فتزوجت، وراح يندب حظه وقلبه يعتصر ألماً وحزناً على فقدانها، فقد سحقت عجلات الحرب أحلامه وتلاشت في زنازين الأسرِ أماله . وبعد الحرب ضرب الحصار طوقه الخانق على الشعب العراقي ومثله كمعلم لا يكفي راتبه لسدِ متطلباته المعيشية ففكر أن يجد له مورداً آخر يستعين به دون أن يحتاج إلى الآخري. :" أقترحت أمي أن تصنع مكانس يدوية من سعف النخيل وإن أذهب لبيعها في سوقٍ  بعيدة عن منطقتنا التي أسكن خشية أن يروني أهلُها فأنا معلم أولادهم ومقامي كبير لديهم ومرت الأيام وأنا على هذا المنوال ." ) 

وذات يوم وبينما كان يعرض بضاعته فوجئ بخطيبته المنتظرة وهي تقف أمامهُ وتنظر إليهِ بدهشةٍ وأمعان وكانت تمسك بطفلٍ صغيرٍ إلى جانبها  فأرتعشت يداه وخانه لسانه  من هول الصدمة ، وبعد أن غادرت أحس ساعتها ان قلبه يغادر معها. : " شعرتُ ان لسناني تيبس في حلقي، وأسرعتُ لأجمع شتات نفسي .:" 

وهنا يرسم لنا الكاتب ملامح وجدانية وعاطفية وإنسانية، موضحاً جانباً من الصراعات والحروب ومدى تأثيرها على دورة الحياة في أستظهار الدوافع للخروج والمواصلة من جديد من فضاءٍ ضيقٍ إلى فضاءٍ أرحب مشتبكا مع الواقع الذي فرض قسوته في أعادة إنتاج المأساة من جديد، مؤكدا عمق التعبير للوصول إلى نصٍ عاطفي لا يخلو من القهر النفسي ..

تسعةٌ وعشرين نصاً تمسرحت على خشبتها عشرات الشخوص في مشاهد وأحداث وأسماء مختلفة يعرض من خلالها التمازج النفسي والإجتماعي مستشرفا الزمن والأحداث والشخوص بصيغةٍ سرديةٍ مشوقة. في الختام لم تغادر (وجوه في الجرداغ) صورتها ومحيطها الواقعي الذي عاشه الكاتب بحواسه النفسية وخياله الوجداني طيلة رحلته ،صبياً وشاباّ وأستاذاً.. 

(وجوه في الجرداغ)  مجموعة قصصية جديرة بالقراءة ..

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

 


 


 


#buttons=(Accept !) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. اعرف المزيد
Accept !