كنا / عارف محمد
في لحظات حرجة من الصراع الروسي – الأوكراني، تبدو أوروبا الشرقية كساحة اختبار مباشرة لمعادلات الردع بين روسيا والناتو.
الأحداث الأخيرة تظهر أن الأزمة لم تعد محصورة ضمن حدود أوكرانيا، بل تمتد لتشكل تحديا استراتيجيا للغرب كله.
الاختراقات الجوية، التصريحات المتبادلة، المناورات العسكرية المكثفة، واستدعاء كبار القادة الأمريكيين، كلها مؤشرات على أن اللعبة تسير نحو مستويات عالية من التوتر، وربما على حافة الانزلاق نحو مواجهة أوسع.
شرارة التصعيد، الاختراقات الجوية والمواجهة المحتملة
اختراق المجال الجوي البولندي (9–10 أيلول 2025)
دخلت ما بين 19 و23 طائرة مسيّرة المجال الجوي البولندي، ما أدى إلى استنفار دفاعي واسع وإغلاق مؤقت للمطارات المدنية.
هذا الحدث ليس حادثة عادية، وهو يمثل رسالة موسكو بأن حدود الناتو ليست محصنة امام الحسابات الاستراتيجية الروسية.
اختراق المجال الجوي الإستوني (19 أيلول 2025)
حلّقت ثلاث مقاتلات روسية من طراز MiG-31 داخل الأجواء الإستونية لمدة 12 دقيقة، مستفزة القوات الأوروبية.
استمرار هذه الخروقات يخلق بيئة متوترة، تزيد فيها احتمالات سوء التقدير أو التصعيد غير المقصود.
رسائل الردع
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصف روسيا بأنها “نمر من ورق”، في إشارة إلى ضعف القدرات التقليدية الروسية مقابل الحرب العسكرية، الاقتصادية، والسياسية الغربية.
من جهتها، هددت بعض دول الناتو، أبرزها بولندا، بإسقاط أي طائرة روسية تخترق أجواءها وتشكل تهديدا.
هذه التصريحات العلنية تضيق هامش المناورة للطرفين، وتحوّل أي تراجع عن التصعيد إلى خطوة مكلفة سياسيا وإعلاميا.
استعداد امريكي، واستدعاء (800) ضابط
في مشهد غير مألوف حتى في أكبر حروب الولايات المتحدة، استدعى وزير الدفاع الأمريكي نحو 800 ضابط رفيع المستوى (لواء+) من جميع انحاء العالم إلى اجتماع عاجل في قاعدة كوانتيكو بولاية فيرجينيا.
العدد وحده يكفي ليعكس حجم القلق الكامن داخل البنتاغون، وحتى اللحظة، لم تعلن الوزارة عن جدول أعمال الاجتماع، ما أثار تكهنات واسعة في وسائل الإعلام الأمريكية حول الهدف الحقيقي:
مناقشة سيناريوهات التصعيد مع روسيا وأوكرانيا.
التحضير لمرحلة غير معلنة من المواجهة المفتوحة مع الدولة العميقة.
استعراض من قبل وزير الدفاع الذي لا يحظى باحترام المؤسسة.
أيا كان السبب، فإن مجرد جمع هذا العدد غير المسبوق من الجنرالات والأدميرالات يرسل رسالة مزدوجة:
للداخل الأمريكي بأن القيادة السياسية تتعامل بجدية مع الأخطار القادمة.
لروسيا بأن واشنطن تضع جميع الاحتمالات على الطاولة، من لعبة الاستنزاف الرمادية إلى أسوأ سيناريوهات الحرب الشاملة.
عوامل المواجهة الشاملة
استهداف البنى التحتية الروسية
الهجمات الأوكرانية على المصافي والمرافئ الروسية لم تعد عسكرية بحتة، بل أصبحت رسائل اقتصادية واجتماعية مباشرة للكرملين والمواطن الروسي، “ثمن الحرب سيدفعه الاستقرار الداخلي”، وهذا يجعل الرد الروسي الشامل مسألة وجودية ومسألة وقت لا أكثر.
الاختراقات الجوية والانتهاك السيادي
التوغلات الروسية في أجواء الناتو تعكس رغبة موسكو في فرض واقع جديد:
الردع يتحقق بالأفعال وليس بالتصريحات فقط.
كل دقيقة تقضيها المقاتلات في الأجواء الأوروبية تزيد من هامش الخطأ واحتمالات التصعيد غير المقصود.
الخطاب العلني والتحدي السياسي
التصريحات المتبادلة بين قادة الطرفين تشير إلى تحول الصراع إلى مواجهة علنية، تعقد التراجع عن السياسات المتشددة وتزيد من صعوبة إدارة الأزمة عبر القنوات الدبلوماسية فقط.
الحذر الاستراتيجي من التصعيد
تفعيل المادة الرابعة بدل الخامسة للناتو
بعد حادثة إستونيا وبولندا، اعتمد الحلف آلية المشاورات بدل الدفاع الجماعي، رسالة واضحة بأن الهدف هو احتواء الأزمة لا تفجيرها.
الرد الروسي المحدود
موسكو أبقت هجماتها داخل الأراضي الأوكرانية، متجنبة المواجهة المباشرة مع دول الناتو، ما يعكس إدراكها لحساسية الحسابات الاستراتيجية.
الوعي النووي
جميع الأطراف تدرك أن أي تصعيد قد يفتح الباب أمام مواجهة نووية، ما يفرض دقة متناهية في كل خطوة ويحولها إلى لعبة حسابات دقيقة للغاية.
الانقسامات الغربية
بينما تدفع بولندا ودول البلطيق نحو التصعيد، تتردد ألمانيا وفرنسا، مدركتين أن حربا شاملة ستدمر أوروبا أولا قبل أن تصل إلى موسكو أو واشنطن، هذا التباين يزيد صعوبة اتخاذ قرارات جماعية.
الصين، لاعب حذر ومتوازن
تراقب بكين التطورات عن كثب، فهي:
تدعم موسكو اقتصاديا وسياسيا بما يكفي لإبقاء روسيا في المنافسة، لكنها تتجنب أي تحرك يؤدي لانفلات الصراع، مهددا مصالحها العالمية، وقد تلعب دور الوسيط أو صانع التوازن إذا ارتفعت احتمالات التصعيد الشامل.
وجود الصين كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية فاعلة يشكل عاملا حاسما في توجيه الصراع، ويزيد من تعقيد التحليلات الغربية.
السيناريوهات المتوقعة
استمرار الحرب في مستوى منخفض-عالي، عبر المسيّرات، التخريب، الحرب الاقتصادية، مع جولات مفاوضات متقطعة، بهدف تحقيق مكاسب دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
شرارة غبية
حادثة بسيطة مثل إسقاط طائرة أو هجوم ناجح على شبكة طاقة حيوية، قد تشعل سلسلة ردود خارج السيطرة، والتاريخ شاهد أن الحروب الكبرى تشتعل أحيانا بأتفه الأسباب.
الخطر النووي
يبقى احتمال واردا، إذا شعرت أي قوة بتهديد وجودي، قد تستخدم السلاح النووي كخيار أخير، مما يجعل اللعبة الحالية أكثر خطورة من أي وقت مضى.
اخيرا
العالم هذه الأيام، يقف على خط رفيع بين الردع والانفجار، كل طرف يختبر حدود الآخر، وكل تحرك يحمل مخاطر غير محسوبة.
اللعبة الحالية ليست مجرد مناورة عسكرية أو سياسية، بل اختبار شامل لموازين القوة والاستقرار العالمي.
والسؤال الأهم يبقى:
هل سيتمكن اللاعبون من السيطرة على التصعيد، أم أن خطأ غير متوقع سيقود الجميع إلى حرب عالمية شاملة؟
